طلبت مني جريدة وطنية معروفة رأيي في المشهد السياسي الحالي والانتخابات وتوقعاتي في من يتصدر الترتيب من الأحزاب القوية المتنافسة، ومن سيقود الحكومة المقبلة في مطلع العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين، فكان هذا ردي:
صديقي العزيز رئيس التحرير؛
ليس هناك من ضرورة للتحليل والتقييم وأكثر من ذلك لا أهمية لرأيي الشخصي في الموضوع ؛ فالواقع السياسي يعيد إنتاج نفسه والحملة الانتخابية تكرس نفس الوضع وتعيده إلى الواجهة ولو بصورة مشوهة في نوع من استعادت الشريط إلى الخلف لاستنساخ نفس الاحداث ونفس الاسماء ونفس الأحزاب ونفس البرامج ونفس الوعود ونفس الوجوه، إن ما يجسده التحليل السياسي كقيمة نقدية فكرية، هو وضع المقترح موضع التداول لتعم الفائدة والتحذير من تكرار نفس الأخطاء أو العودة اليها، وبالتالي جعل الفكرة في وضعها الصحيح لتصبح متداولة ويعمل بها، وكل هذا كان على مدى عقود من تناولنا مقدمات في الفكر السياسي والنقد اردنا ان يستفيد منها وضعنا السياسي المغربي اولا ، ان ما سأقوله الآن يا صديقي العزيز، قلته مرارا وقلته خلال الاستحقاق الماضي وقلته في الاستحقاق الذي سبقه وقلته في عدة مناسبات وعدة تدخلات وعدة مقالات وعدة حوارات وقاله غيري كثيرون..
في الوقت الراهن أدركت بما يكفي من الصدق والتواضع أن الصمت حكمة الحال وخير جواب عن أسئلة الإعلام والثقافة السياسية، وأكثر من ذلك ان اترك المجال لمن هم أقرب إليه مني أعني السياسيين والمناضلين وذوي الخبرة الحزبية، و بالنسبة لي صديقي العزيز انهيت الآن علاقتي بصفة قطعية مع أي تحليل او تصريح له طبيعة سياسية تتعلق بالمشهد السياسي في المغرب حزبي كان أو غير حزبي، حتى الكتابة خارج نطاق المعرفة والفكر السياسي و داخل هذه الدائرة المغلقة لم تعد تقنعني ولم يعد لها طعم بالنسبة لي، ربما تغيرت قناعتي ربما نضجت أكثر وأدركت أن السياسة في المغرب ليست مرتبطة بالعقل النقدي ولا بالمدارك المعرفية والعلوم بقدر ما هي وليدة العرف والواقع وميول الأشخاص وقناعاتهم، فكما يقول واتر بوري "لا يمكن تقييم واقع سياسي ينفلت أكثر فأكثر من قواعد سوسيولوجيا المعرفة السياسية والمنطق.." خصوصا في خضم واقع سياسي غريب الأطوار ..
ربما هناك مؤثرات أخرى تسببت في هذا العزوف أو الامتناع المشروط؛ منها التقدم في السن والوضع الصحي وربما كما قال لي ذات مرة صديقي العزيز الاستاذ صلاح الوديع؛ "أن نخبنا المناضلة قد انهكت بما يكفي ولم تعد قادرة على مواصلة السير" ولعل في هذا نصيب من الحقيقة لأن السيارة تجدد نفسها عن طريق قطع الغيار مرارا وحين تتهالك لا تصبح صالحة للاستعمال.
تذكر صديقي العزيز ، أن السياسة لها بداية ولها نهاية حسب النظرية الخلدونية وان ما قاله الدكتور ادريس بنعلي رحمه الله في إحدى مقالاته حول نهاية السياسة كان له نصيب من الصواب، لعلنا نعيش منذ نهاية القرن الماضي زمن النهايات متجليا في طوفان من المتغيرات، التي جبت ما قبلها ووضعت شروط تواجدها في مجتمعات متحولة باستمرار تتغير يوما بعد يوم. نحن نقبل صديقي العزيز على تغير كوني شامل احدثه متغير بيولوجي قاسي وحتمي ويفرض شروطه الخاصة ويفرض علينا أن نتكيف مع هذه الشروط التي تحدد مستقبلا مكونات البيئة والجغرافية و الانسان و ستحدد في القريب المتأتي استراتيجية الجيوسياسية وحدود الدول ومجالاتها وحدود القرار السيادي لكثير من الدول في العالم وخصوصا دول ما يسمى بالجنوب التي منذ نصف قرن استعصت عليها حلول التنمية والاقتصاد والعدالة الاجتماعية والديمقراطية وكيفية معالجتها الإشكالات التي تدخل في برامجها الحكومية. سنرى يا صديقي العزيز بعد أقل من عقد من الزمن شكل عالم جديد يتكون وكيف ستؤول الأمور ومن سيتولى قيادة الشعوب والى متى سيسمح لبعض الدول أن تتحكم في مجالاتها الجيوسياسية وتكون سيادية وكيف تتبدل الخريطة الجيوسياسية والاجتماعية للعالم. لا تصدق انني أتحدث بظاهر الغيب أو اتنبأ ، انني اتحدث من عمق المعرفة وخصوصا علم الاقتصاد السياسي، أن الاقتصاد كما سبق لماركس ان قال هو مقود الإنسانية نحو المستقبل. وقد تبددت هذه الفكرة عندما اجتاحت الأيديولوجيات مجال القضايا السياسية في العالم وتحكمت اللوبيات الرأسمالية في القرار السياسي ونشر أفكارها المسمومة مطالبة بعالم القرية الواحدة.
ان تفاعل المتغير كان يتشكل منذ نهاية العقد الأخير من القرن الماضي والآن أصبح واقعا ملموسا ومعاشا. فما العمل اذن يا صديق اذا كانت سرعة التغيير الكونيةS ماراطونية ونحن لا نستطيع ان نتغير أو نواكب تطورات هذا التغيير... أليس جديرا أن نصمت ؟