كانت ليلى تعيش حياة تبدو مثالية من الخارج؛ طالبة متفوقة، مرحة، ومحبوبة من الجميع. لكنها كانت تخوض معركة داخلية صامتة لا يعرفها أحد. خلف الأبواب المغلقة، كانت ليلى تعاني من اضطراب غذائي يعرف باسم الشره المرضي العصبي.
بدأت القصة عندما كانت ليلى مراهقة، تعيش تحت ضغوط المجتمع والتوقعات المثالية للجمال. مع كل صورة على وسائل التواصل الاجتماعي، ومع كل تعليق عن الوزن والجمال، كانت ليلى تشعر بأن شكلها لا يرقى إلى المعايير التي يضعها الآخرون. أصبحت ترى الطعام كعدو، لكنه في نفس الوقت كان ملجأها الوحيد في لحظات ضعفها.
كانت ليلى تأكل كميات كبيرة من الطعام دفعة واحدة، تختبئ في غرفتها لتناول الوجبات بشراهة، ثم يطاردها الشعور بالذنب والخزي. لم تجد وسيلة للتخلص من هذا العبء سوى محاولة التخلص من الطعام الذي تناولته عبر القيء أو ممارسة التمارين بشكل مفرط.
تحولت العلاقة مع الطعام إلى ساحة معركة. لم يكن الطعام مجرد وسيلة للبقاء على قيد الحياة؛ بل أصبح أداة لعقاب الذات. كل لقمة كانت تذكرها بالفشل، وكل مرة تتخلص فيها من الطعام كانت تشعر وكأنها تستعيد السيطرة على حياتها، ولو للحظات قصيرة.
لكن الألم النفسي والجسدي استمر في التصاعد. بدأت ليلى تشعر بالضعف، وأصبحت أكثر عزلة عن أصدقائها وعائلتها. ومع مرور الوقت، لم يعد جسدها يتحمل هذا الضغط. ظهرت عليها أعراض جسدية مثل التعب المستمر، تساقط الشعر، واضطرابات في دقات القلب.
في أحد الأيام، وبينما كانت ليلى جالسة في غرفتها، شعرت بوجود أمها التي لاحظت التغيرات التي طرأت على ابنتها. جلسوا معا في حوار طويل، حيث أفرغت ليلى ما في قلبها لأول مرة. شعرت وكأنها تضع ثقلا هائلا عن كاهلها.
بدأت رحلتها في العلاج بعد ذلك اليوم. لجأت ليلى إلى طبيب نفسي متخصص في اضطرابات الأكل، وبدأت في إعادة بناء علاقتها مع الطعام ومع نفسها. تعلمت أن الطعام ليس عدوا، وأن حب الذات لا يتطلب المثالية.
قصة ليلى تسلط الضوء على واقع يعيشه الكثيرون بصمت. الشره المرضي العصبي ليس مجرد اضطراب غذائي، بل هو صرخة للمساعدة تحتاج إلى التفهم والدعم، وليس إلى الحكم.
بعد بداية رحلة العلاج، واجهت ليلى تحديات جديدة. لم يكن التعافي مجرد قرار، بل كان طريقا مليئا بالعثرات والنجاحات الصغيرة. كان اليوم الأول في جلسات العلاج النفسي أصعب مما تخيلت؛ جلست أمام المعالج تحاول وضع الكلمات على مشاعرها التي دفنتها لسنوات. كانت دموعها تتحدث أكثر من كلماتها.
مع مرور الوقت، بدأت ليلى تفهم جذور مشكلتها. اكتشفت أن الشره المرضي العصبي لم يكن متعلقا بالطعام فقط، بل كان تعبيرا عن شعور عميق بعدم الكفاية والخوف من الفشل. تعلمت من معالجتها أن تضغط على زر الإيقاف عندما تسيطر عليها أفكار الكمال المرهقة، وأن تسمح لنفسها بالخطأ دون جلد ذاتها.
بدأت ليلى بالانضمام إلى مجموعة دعم، حيث التقت بأشخاص مروا بتجارب مشابهة. لأول مرة، شعرت بأنها ليست وحدها، وأن الآخرين يمكنهم فهمها دون إصدار أحكام. في كل اجتماع، كانت تشارك قصتها وتستمع لقصص الآخرين، مما منحها قوة للاستمرار في طريق التعافي.
بالتوازي مع العلاج النفسي، لجأت إلى أخصائي تغذية ساعدها على إعادة بناء علاقتها مع الطعام. كان الأمر أشبه بإعادة تعلم شيء بديهي؛ كيف تأكل بلا خوف، كيف تستمتع بوجبتها دون الشعور بالذنب. مع كل وجبة كانت تتناولها بدون التفكير في عقاب أو تعويض، كانت تخطو خطوة نحو الحرية.
لكن التحدي الأكبر كان مواجهة المجتمع الذي كان السبب في جزء كبير من معاناتها. عرفت ليلى أن صور المثالية التي تعرض على وسائل التواصل الاجتماعي ليست سوى أوهام. بدأت تتحدث بصراحة مع صديقاتها عن تجربتها، مما ساعدهن على رؤية الجانب الآخر من القصة؛ أن خلف الصور المثالية قد تكون هناك معاناة صامتة.
في أحد الأيام، قررت ليلى أن تكتب عن تجربتها على مدونة صغيرة، بعنوان "رحلتي مع نفسي". لم تتوقع أن يقرأها الكثيرون، لكنها فوجئت بتفاعل كبير من قراء شكروا شجاعتها. كان ذلك نقطة تحول، إذ أدركت أنها ليست فقط تتعافى، بل تساعد الآخرين أيضا على فهم اضطرابات الأكل والتعاطف مع من يعانون منها.
اليوم، وبعد سنوات من الجهد والعمل، أصبحت ليلى ترى نفسها من منظور جديد. لم تعد ترى الطعام كعقاب أو عدو، ولم تعد تطارد الكمال. تعلمت أن تتقبل ذاتها بكل عيوبها، وأن الحياة الحقيقية ليست في المثالية، بل في التصالح مع النفس.
قصة ليلى لم تنته، لكنها الآن تسير على طريق أفضل، حيث الأمل أقوى من الخوف، وحيث حب الذات يغلب على كل شيء.
مع مرور الوقت، أصبحت ليلى مصدر إلهام للآخرين. تجربتها التي كانت يوما سرا مؤلما تحولت إلى رسالة قوة وأمل. بعد أن استقرت حالتها الصحية والنفسية، قررت الانخراط في العمل التطوعي لدعم الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات الأكل.
انضمت إلى جمعية متخصصة تعنى بالتوعية بمخاطر اضطرابات الأكل وتقديم الدعم النفسي للمرضى. بدأت بإلقاء محاضرات صغيرة في المدارس والجامعات، تتحدث فيها عن تجربتها الشخصية. لم تكن مجرد كلمات تقال، بل كانت تعبر بكل صدق عما مرت به: الألم، الخوف، الشعور بالذنب، ثم التعافي.
خلال إحدى محاضراتها، تقدمت فتاة صغيرة بخجل بعد انتهاء الحديث. نظرت إلى ليلى وقالت بصوت متهدج:
"قصتك هي قصتي، لكنني كنت أخشى التحدث عنها. هل يمكن أن أتعافى كما فعلت؟"
تأثرت ليلى كثيرا بكلمات الفتاة، وشعرت بأنها تؤدي رسالة حقيقية. أمسكت بيد الفتاة وقالت لها بابتسامة دافئة:
"نعم، يمكنك. الرحلة صعبة، لكنك لست وحدك، ونحن هنا لدعمك"
هذا الموقف عزز إيمان ليلى بدورها الجديد. قررت توسيع نطاق عملها، فبدأت في كتابة كتاب عن تجربتها مع الشره المرضي العصبي، تقدم فيه نصائح عملية للمرضى وأسرهم. أرادت أن يكون الكتاب دليلا للآخرين، يساعدهم على فهم اضطرابات الأكل والتعامل معها بوعي وتعاطف.
في هذه الأثناء، لم تكن ليلى تنسى الاهتمام بنفسها. كانت مستمرة في جلساتها العلاجية رغم أنها تحسنت كثيرا. كانت تعلم أن التعافي ليس نهاية الطريق، بل هو عملية مستمرة تتطلب صيانة نفسية دائمة.
مع مرور السنين، أصبحت ليلى تدعى إلى مؤتمرات عالمية تتحدث فيها عن أهمية التوعية باضطرابات الأكل. وفي كل مرة تقف أمام الجمهور، كانت تشعر بالفخر. تلك الفتاة التي كانت ترى نفسها ضعيفة وغير كافية أصبحت الآن رمزا للصمود والأمل.
في النهاية، لم تكن قصة ليلى مجرد قصة عن الشره المرضي العصبي، بل كانت قصة عن الشجاعة، وعن كيف يمكن للإنسان أن يحول ألمه إلى مصدر قوة. أصبحت حياتها مثالا حيا على أن الضوء يمكن أن ينبثق من الظلام، وأن الإنسان يمكنه أن يتغلب على أسوأ لحظاته ليخلق منها بداية جديدة مليئة بالمعنى.
وهكذا، استمرت ليلى في نشر رسالتها، مدركة أن كل كلمة تقولها قد تكون شعلة أمل لشخص ما في الظلام.(1) (2) (3) (4)
—-----------
الشره المرضي العصبي: من دراسة الحالة إلى الوصف العلمي
1.
التعريف العلمي للشره المرضي العصبي
الشره المرضي العصبي (Bulimia Nervosa) هو اضطراب نفسي يتميز بنوبات متكررة من الأكل بشراهة، يتبعها سلوكيات تعويضية غير مناسبة مثل التقيؤ المتعمد، أو الإفراط في ممارسة الرياضة، أو استخدام المسهلات ومدرات البول. وفقًا لـ التصنيف الدولي للأمراض (ICD-11) والدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-5)، يصاحب هذا الاضطراب شعور قوي بالخجل والذنب بسبب فقدان السيطرة على تناول الطعام، بالإضافة إلى القلق المفرط بشأن الوزن وشكل الجسم.
2
أهم خصائص الشره المرضي العصبي
1
نوبات متكررة من الأكل بشراهة: تناول كميات كبيرة من الطعام خلال فترة قصيرة مع الشعور بفقدان السيطرة على كمية الأكل
2.
سلوكيات تعويضية غير صحية: التقيؤ الذاتي، استخدام الملينات، الصيام لفترات طويلة، أو الإفراط في ممارسة الرياضة لمنع زيادة الوزن
3.
قلق مفرط بشأن شكل الجسم والوزن: تأثر احترام الذات بمظهر الجسم، ما يؤدي إلى سلوكيات غذائية غير صحية
4.
دورات متكررة من الإفراط في الأكل والتخلص من الطعام: على الأقل مرة واحدة أسبوعيًا لمدة ثلاثة أشهر على الأقل، وفقًا لـ DSM-5.
أعراض جسدية ونفسية: التعب المزمن، الجفاف، اضطرابات في نبضات القلب، ضعف الأسنان بسبب التقيؤ المتكرر، بالإضافة إلى اضطرابات القلق والاكتئاب.
3
إمكانية التعافي من الاضطراب
الشره المرضي العصبي اضطراب قابل للعلاج، لكنه يتطلب نهجًا متعدد التخصصات يشمل الدعم النفسي والتغذوي والطبي. وفقًا للأبحاث السريرية، يمكن تحقيق التعافي من خلال
1:
العلاج النفسي:
العلاج السلوكي المعرفي
CBT
: يعتبر العلاج الأكثر فعالية، حيث يساعد المرضى على تغيير الأفكار السلبية عن الطعام والجسم وتطوير استراتيجيات صحية للتحكم في الانفعالات.
العلاج الديناميكي النفسي: يستكشف العوامل العاطفية والجذرية وراء اضطراب الأكل، مثل انعدام الثقة بالنفس والصدمات النفسية.
العلاج الجماعي ودعم الأقران: كما ظهر في قصة ليلى، يساعد المرضى على الشعور بأنهم ليسوا وحدهم، ويعزز من قدرتهم على التحكم في سلوكياتهم
2.
المتابعة الطبية والتغذوية:
استشارة أخصائي تغذية لإعادة بناء عادات غذائية صحية ومتوازنة.
متابعة طبية لمعالجة المضاعفات الناتجة عن الاضطراب مثل نقص العناصر الغذائية واضطرابات القلب
3.
العلاج الدوائي (إذا لزم الأمر):
في بعض الحالات، قد يصف الطبيب مضادات الاكتئاب من فئة مثبطات امتصاص السيروتونين الانتقائية (SSRIs) مثل الفلوكسيتين، الذي ثبتت فعاليته في تقليل نوبات الأكل بشراهة والتقيؤ.
4
استنتاج
تبرز قصة ليلى الجوانب النفسية والاجتماعية المرتبطة بالشره المرضي العصبي، حيث يظهر كيف تلعب معايير الجمال المجتمعية ووسائل التواصل الاجتماعي دورا في تشكل اضطرابات الأكل. يمكن تجاوز هذا الاضطراب من خلال الاعتراف بالمشكلة، طلب الدعم، والالتزام بالعلاج النفسي والسلوكي. في النهاية، التعافي لا يعني فقط التخلص من الأعراض، بل إعادة بناء علاقة صحية مع الذات ومع الطعام، تمامًا كما فعلت ليلى في رحلتها نحو التعافي.