تحليل ومناقشة القصة الثالثة: "العيون تراقبني" (الرهاب الاجتماعي) من كتاب "قصص من أعماق النفس: نافذة على الاضطرابات النفسية والعقلية"، للكاتب المصطفى توفيق، باحث في علم النفس الإكلينيكي والمرضي. مطبعة نافع، تطوان، المغرب، 2025

 





أولا: البنية السردية ودلالاتها


تعكس القصة رحلة يوسف النفسية من المعاناة إلى التغيير، مستندة إلى سرد يعتمد على ثلاث مراحل رئيسية:


1.

رحلة المعاناة والعزلة: حيث يعيش يوسف تحت وطأة القلق الاجتماعي، يتجنب المواقف التي تتطلب التفاعل مع الآخرين، ويشعر بأنه مراقب باستمرار.


2

 مرحلة المواجهة والتدخل العلاجي: حيث يقرر طلب المساعدة من مختص نفسي، ليبدأ رحلة علاجية تستند إلى العلاج السلوكي المعرفي.


3

 مرحلة التغيير والتكيف: حيث يبدأ يوسف تدريجيا في مواجهة مخاوفه، وينتقل من العزلة إلى المشاركة الفعالة في الأنشطة الاجتماعية، ليصبح فيما بعد مستشارا نفسيا يساعد الآخرين الذين يعانون من نفس المشكلة.


هذه البنية السردية تعكس بشكل واضح النموذج العلاجي التدريجي المستخدم في علاج اضطرابات القلق، حيث يبدأ الفرد بإدراك مشكلته، ثم يطلب المساعدة، ثم يخوض مراحل علاجية متدرجة حتى يصل إلى مرحلة التعافي والتمكين.


ثانيا: تحليل القصة من منظور نفسي


1

 الرهاب الاجتماعي من الناحية العلمية


الرهاب الاجتماعي، وفقا للتصنيفات التشخيصية 

DSM-5 

 و

ICD-11

 ، هو اضطراب قلق يتمثل في خوف شديد من المواقف الاجتماعية، حيث يخشى الشخص التعرض للإحراج أو التقييم السلبي. تظهر أعراض هذا الاضطراب بوضوح في حالة  يوسف، حيث يعاني من 

الخوف من نظرات الآخرين والحكم عليه:

  

التجنب المفرط للمواقف الاجتماعية.

أعراض جسدية مثل التعرق، والارتجاف، وزيادة معدل ضربات القلب عند مواجهة المواقف الاجتماعية.


تأثير سلبي على الحياة اليومية، مما أدى إلى انسحابه من الأنشطة الجماعية.


2

 العوامل النفسية المساهمة في الرهاب الاجتماعي


يمكن تحليل حالة يوسف من خلال العوامل التي تساهم في تطور الرهاب الاجتماعي:


العوامل المعرفية: كالتفكير السلبي المتمثل في الاعتقاد بأن الجميع يراقبه ويحكم عليه، وهو ما يعرف بـ "التحيز الإدراكي" في اضطرابات القلق.


العوامل السلوكية: تجنب المواقف الاجتماعية يعزز الخوف ويؤدي إلى حلقة مفرغة من القلق والتجنب.


العوامل الفسيولوجية: الاستجابة الجسدية المبالغ فيها عند التعرض للمواقف الاجتماعية (مثل التعرق والارتجاف)، مما يزيد من إحساسه بالضعف.


3

 فعالية العلاج السلوكي المعرفي (CBT)


تعتمد رحلة تعافي يوسف على تقنيات العلاج السلوكي المعرفي، والتي تشمل:


التعرض التدريجي: حيث بدأ بالتفاعل مع زملائه ثم تطور إلى التحدث أمام مجموعات أكبر.


إعادة هيكلة الأفكار: تعلم أن مخاوفه مبالغ فيها، وأن الآخرين ليسوا دائما مهتمين بمراقبته.


تقنيات الاسترخاء: مثل تمارين التنفس العميق لمساعدته على مواجهة القلق أثناء العروض التقديمية.


ثالثا: رمزية القصة ورسائلها النفسية والمجتمعية


تحمل القصة دلالات نفسية ومجتمعية مهمة، منها:


أهمية الوعي بالصحة النفسية وطلب المساعدة عند الحاجة.


ضرورة مواجهة المخاوف الاجتماعية بدلا من تجنبها، لأن التجنب يعزز المشكلة بدلا من حلها.


فعالية العلاج النفسي في تحسين جودة الحياة، حيث تحول يوسف من شخص يخشى الآخرين إلى شخص يلهمهم.


دور الدعم الاجتماعي (مثل دعم الأم والمعالج) في تسهيل عملية التعافي.



في الختام، تمثل قصة يوسف نموذجا عمليا لكيفية التغلب على الرهاب الاجتماعي من خلال العلاج النفسي، مما يعكس مفهوم "القابلية للتغيير" في الاضطرابات النفسية. تؤكد القصة أن المواجهة التدريجية والتدخل العلاجي يمكن أن يؤديان إلى تحسن ملحوظ، وهو ما تدعمه الدراسات العلمية في علم النفس الإكلينيكي.


رسالة الكاتب المصطفى توفيق في القصة الثالثة "العيون تراقبني" من كتاب "قصص من أعماق النفس" تتجلى في عدة أبعاد نفسية وإنسانية، وأهمها:


1

 إبراز معاناة الأشخاص الذين يعانون من الرهاب الاجتماعي: يسلط الكاتب الضوء على تجربة يوسف، شاب جامعي يعيش في عزلة وخوف مستمر من التفاعل الاجتماعي، وهو ما يعكس واقع العديد من الأفراد الذين يعانون من هذا الاضطراب.


2

 التأكيد على أن الرهاب الاجتماعي يمكن التغلب عليه: من خلال رحلة يوسف في العلاج السلوكي المعرفي 

CBT

 والتعرض التدريجي للمواقف المخيفة، يوضح الكاتب أن الخوف ليس قدرا محتوما، بل يمكن تجاوزه عبر الاستراتيجيات العلاجية المناسبة.


3

 التشجيع على طلب المساعدة وعدم الاستسلام: يدعو الكاتب إلى كسر حاجز الصمت والتحدث عن المشكلات النفسية، كما فعل يوسف عندما لجأ إلى والدته والطبيب النفسي، مما ساعده في بدء رحلته نحو التعافي.


4

 التأكيد على قوة التجربة الشخصية في مساعدة الآخرين: يظهر الكاتب كيف تحولت معاناة يوسف إلى مصدر إلهام لغيره، مما يعكس رسالة أمل مفادها أن تجاوز الصعوبات الشخصية يمكن أن يحدث تأثيرا إيجابيا في حياة الآخرين.


5

 التحرر من وهم التقييم المستمر من قبل الآخرين: من خلال إدراك يوسف أن الناس مشغولون بأنفسهم أكثر مما يظن، يبعث الكاتب برسالة قوية مفادها أن الكثير من مخاوفنا مبنية على تصورات خاطئة.


بشكل عام، يسعى الكاتب إلى نشر الوعي حول الرهاب الاجتماعي، والتأكيد على إمكانية العلاج، وتعزيز ثقافة الاهتمام بالصحة النفسية، مما يجعل القصة ذات بعد تثقيفي وتحفيزي في آن واحد.