دور علماء العلوم الحقة في تأسيس مدارس علم النفس: تحليل تاريخي ونقدي

 



علم النفس، باعتباره علما يدرس السلوك والعمليات الذهنية، لم ينشأ من فراغ، بل تأسس على يد رواد قادمين من ميادين علمية دقيقة كالفزياء والطب. وقد ساهم هؤلاء العلماء في نقله من فضاء الفلسفة والتأمل إلى ميدان الملاحظة والتجريب. وفي هذا السياق، تبرز عبارة: "أغلبية علماء العلوم الحقة مثل الأطباء والفيزيائيين أسسوا مدارس علم النفس" كملاحظة تستحق التحليل والمناقشة.


أولا: تعريف العلوم الحقة وعلاقتها بعلم النفس


العلوم الحقة هي تلك التي تعتمد على المنهج التجريبي، مثل الفيزياء والرياضيات والكيمياء، وتتميز بالدقة والصرامة المنهجية. وعندما بدأ علم النفس في التبلور كعلم مستقل في نهاية القرن 19، استمد من هذه العلوم الكثير من أدواته ومناهجه، خاصة من الطب وعلم الفسيولوجيا.


ثانيا: أمثلة توضيحية من المدارس النفسية


1

 المدرسة البنيوية

Structuralism


المؤسس: فيلهلم فونت

Wilhelm Wundt


كان طبيبا وفسيولوجيا ألمانيا.


أسس أول مختبر لعلم النفس التجريبي في مدينة لايبزيغ عام 1879.


اعتمد على أدوات فيزيولوجية مثل جهاز قياس الزمن 

chronoscope

 لدراسة الاستجابات النفسية.

مثال تطبيقي: تجربة "وقت الاستجابة" لقياس سرعة إدراك الفرد للمثيرات الحسية.


2

 المدرسة السلوكية

Behaviorism


المؤسس: جون واطسون

John Watson

تلقى تكوينا علميا صارما، واعتمد المنهج التجريبي في دراساته.


رفض دراسة الشعور وركز على السلوك القابل للملاحظة.

مثال تطبيقي: تجربة "ألبرت الصغير" التي استخدم فيها مفاهيم من الفيزياء لتفسير الاستجابة الانعكاسية.

مطور المدرسة: ب.ف. سكينر

B.F. Skinner

استخدم صندوقا تجريبيا لقياس الاستجابات،

Skinner Box

مستلهما من أدوات العلوم الدقيقة.


3

 مدرسة التحليل النفسي

Psychoanalysis


المؤسس: سيغموند فرويد 

Sigmund Freud)


كان طبيبا متخصصا في الجهاز العصبي.


اعتمد في بداية أبحاثه على تقنيات طبية مثل التنويم المغناطيسي.

مثال تطبيقي: علاج "الهستيريا التحويلية" عبر الاستماع إلى الرواية اللاواعية للمريض، كما في حالة "آنا أو".


4

 المدرسة الجشطالتية

Gestalt


المؤسسون: كورت كوفكا، ماكس فيرتهايمر، وولفغانغ كوهلر


تلقوا تكوينا في الفيزياء والفسيولوجيا.


اهتموا بدراسة الإدراك البصري انطلاقا من قوانين فيزيائية.

مثال تطبيقي: تجربة "الإدراك الحركي الظاهري" ،

Phi phenomenon

 وهي أساس في فهم حركة الصورة في السينما.


ثالثا: تحليل نقدي


تظهر الأمثلة أن نشأة علم النفس الحديث ارتبطت ارتباطا وثيقا بعلماء ذوي تكوين في العلوم الحقة. ويرجع ذلك إلى:


رغبة في إضفاء الشرعية العلمية على علم النفس.


الاعتماد على أدوات وتجهيزات دقيقة لتفسير السلوك الإنساني.


محاولة التخلص من الطابع التأملي والفلسفي لعلم النفس.


لكن، من جهة أخرى، لا يمكن تجاهل دور الفلاسفة وعلماء الإنسانيات في تأطير المفاهيم النظرية والنقدية لعلم النفس، مثل ديكارت في الثنائية النفس-الجسد، أو جون لوك في مبدأ التعلم.


في الختام، يمكن القول إن تأسيس المدارس الكبرى في علم النفس كان مدفوعا في جانب كبير منه بعلماء من ميادين الطب والفيزياء. لقد أدت خلفيتهم العلمية إلى تبني منهج تجريبي دقيق أسهم في استقلال علم النفس عن الفلسفة، وجعله علما قائما بذاته. ورغم ذلك، فإن تطور هذا العلم لا يكتمل إلا بالتكامل بين الدقة العلمية والبعد الإنساني في فهم النفس البشرية.